• لا يمكن تحميل الملفات المرفقة الا بعد الرد على الموضوع

خطب الجمعة والمناسبات

إنضم
5 أغسطس 2012
المشاركات
7,203
مستوى التفاعل
0
غير متصل
خطب الجمعة والمناسبات
رد : خطب الجمعة والمناسبات

خطبة الجمعة عنوانها غزوة بدر الكبرى



بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم
الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فاتقوا الله - عباد الله - حقَّ التقوى؛ فتقوى الله تزيدُ النِّعَم، وتدفعُ النِّقَم.

أيها المسلمون:

أصول الدين معرفةُ الله ومعرفةُ دينِه ومعرفةُ نبيِّه - صلى الله عليه وسلم -، وبواسِطة النبي - صلى الله عليه وسلم - يعرفُ العبدُ ربَّه ودينَه، وسعادةُ الدارَين مُعلَّقةٌ باتباع هديِ النبي - صلى الله عليه وسلم -.

قال ابن القيم - رحمه الله -: "يجبُ على كل من نصحَ نفسَه وأحبَّ نجاتها وسعادتَها أن يعرفَ من هديِه وسيرتِه وشأنِه ما يخرُجُ به عن الجاهِلين به، ويدخُلُ به في عِداد أتباعه وشِيعتِه وحِزبِه".

والناسُ في هذا بين مُستقلٍّ ومُستكثِرٍ ومحرومٍ، ويومُ الجُمعة السابع عشر من شهر رمضان في السنة الثانية من الهِجرة يومٌ عظيمٌ في الإسلام، سمَّاه الله تعالى "يوم الفرقان"، وقال عنه - عليه الصلاة والسلام -: «اللهم إن تهلِك هذه العِصابةُ - أي: الجماعةُ من أهل الإسلام - لا تُعبَد في الأرض»؛ رواه مسلم.

قال القرطبيُّ - رحمه الله -: "وعلى ذلك اليوم ابتُنِيَ الإسلام".

حضرَه النبي - صلى الله عليه وسلم - بنفسِه، ونزلَ ألفُ ملَكٍ من السماء يقدُمُهم جبريلُ - عليه السلام - من أجلِه، من شهِد ذلك اليوم من المؤمنين فذنبُه مغفورٌ ومُحرَّمٌ عليه النار، وكان في أعالِي الجِنان، ومن حضرَه من الملائِكة فُضِّلَ على غيرِه من أهل السماء. فيه عِبرٌ وآيات .. ودروسٌ ومُعجِزات.

حاربَت قُريشٌ دينَ الله وأخرَجوا نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - من مكَّة وآذَوا صحابتَه، فهاجَروا إلى المدينة، ولما بلغَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أن عِيرًا مُقبِلةً من الشام صُحبةَ أبي سُفيان تحمِلُ أموالاً جزيلةً لقُريش ندبَ أصحابَه للخروج إليها ليتنفَّلُوها، وليعلمَ المُشركون أن المُسلمين ليسُوا في ضعفٍ وهوانٍ.

وخرج معه ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً، لا يُريدون غزوًا، وإنما العِير، ولما علِم أبو سُفيان بخروجِهم استصرخَ قُريشًا بالنفيرِ إليه، ثم سلكَ طريقَ الساحلِ ونجا، وأخبرَهم بنجاتِه.

ولكن قُريشًا خرجَت بساداتِها ولم يتخلَّف من أشرافِهم أحدٌ سِوى أبي لهبٍ، وحشَدوا من حولَهم من قبائلِ العربِ لإبادَة المُسلمين، وخرَجوا كما قال - سبحانه -: (بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ) [الأنفال: 47].

وصحابةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيرُ صحبٍ لخير نبيٍّ، لما علِموا بمقدَم قُريشٍ لقتال النبي - صلى الله عليه وسلم - قام المِقدادُ بن الأسود - رضي الله عنه - وقال: "لا نقولُ كما قال قومُ موسى: (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) [المائدة: 24]، ولكنا نُقاتلُ عن يمينك وعن شمالِك وبين يديك وخلفَك".

قال ابن مسعودٍ - رضي الله عنه -: "فرأيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أشرقَ وجهه، وسرَّه - يعني: قولَه -"؛ رواه البخاري.

وقالت الأنصار للنبي - صلى الله عليه وسلم -: "لو أمرتَنا أن نُخيضَها - أي: الخيل - البحرَ لأخضناها، ولو أمرتَنا أن نضرِبَ أكبادَها - أي: نركُضَ بها - إلى بركِ الغِماد - أي: مدينة الحبشة - لفعَلنا".

ولما دنَت قُريشٌ وعددُهم بقدر المُسلمين ثلاث مرات، باتَ النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعُو ربَّه ويسألُه النصر، وابتهلَ ابتِهالاً شديدًا. وكان رِداؤُه يسقُطُ عن منكِبَيْه، وأبو بكرٍ - رضي الله عنه - يُصلِحُه ويقول: يا رسولَ الله! بعضَ مُناشَدتِك ربَّك؛ فإنه سيُنجِزُ لك ما وعدَك.

ولم يبِتِ النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلتَئذٍ؛ بل كان يجأرُ إلى الله. قال عليٌّ - رضي الله عنه -: "ولقد رأيتُنا وما فِينا إلا نائِم، إلا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - تحت الشجرة يُصلِّي ويبكِي حتى أصبَح".

فاستجابَ الله دعاءَ نبيِّه - صلى الله عليه وسلم -، وبشَّر صحابتَه بالنصر، وأخبرَهم بمواضِع مصارِع رُؤوس المُشركين.

وأقبلَت قُريشٌ بكتائِبِها إلى بدرٍ، واجتمع الجيشان على غير مِيعادٍ لحكمةٍ يُريدُها الله، كما قال - سبحانه -: (وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا) [الأنفال: 42].

وألقَى الله على المُؤمنين النُّعاسَ أمانًا وطُمأنينةً لهم، (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ) [الأنفال: 11].

وقلَّل الله أعداد المُسلمين في أعيُن المُشرِكين لئلا يفِرُّوا، وقلَّل أعدادَ المُشرِكين في أعيُن المُسلمين ليُقدِموا، (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا) [الأنفال: 44].

قال ابن مسعودٍ - رضي الله عنه -: "حتى إني لأقولُ لرجُلٍ إلى جنبي: أتراهُم سبعين؟ قال: أراهم مائة"، وهم قُرابة الألف.

وألقَى الله الرُّعبَ والخوفَ في قلوب المُشركين، (سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) [الأنفال: 12].

وثبَّت المُؤمنين بملائكةٍ، كما قال - سبحانه -: (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا) [الأنفال: 12].

وحرَّضَ النبي - صلى الله عليه وسلم - المؤمنين على القتال، والتقَى الجمعان وحمِيَ الوَطيسُ، وبدأَ النصرُ بماءٍ طهَّر المُسلمين ظاهرًا وباطنًا، وثبَّت أقدامَه، وربطَ على قلوبِهم، وأذهبَ عنهم تخذيلَ الشيطان، قال - سبحانه -: (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ) [الأنفال: 11].

وحضرَ الشيطانُ وقال للمُشركين: (لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ) [الأنفال: 48].

ولما رأى الملائكةَ فرَّ وخذلَ المُشرِكين وقال لهم: (إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ) [الأنفال: 48].

وقاتلَ النبي - صلى الله َ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ) [الأنفال: 48].

وقاتلَ النبي - صلى الله عليه وسلم - بنفسِه قتالاً شديدًا، قال عليٌّ - رضي الله عنه -: "لقد رأيتُنا يوم بدرٍ ونحن نلوذُ برسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وهو أقربُنا إلى العدُوِّ، وكان من أشدِّ الناس يومئذٍ بأسًا".

ونزلَ جبريلُ - عليه السلام - يُقاتِلُ في المعركة، وأخبرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - صحابتَه بذلك، وقال لهم: «هذا جبريلُ آخِذٌ برأسِ فرسِه عليه أداةُ الحرب»؛ رواه البخاري.

وقاتلَ معه ألفٌ من الملائكة، وأخبرَ الله المُؤمنين بقِتال الملائِكة معهم بشارةً لهم وتطمينًا لقلوبهم، قال - سبحانه -: (وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ) [آل عمران: 126].

قال ابن عباسٍ - رضي الله عنهما -: "بينما رجلٌ من المسلمين يومئذٍ يشتدُّ في أثرِ رجلٍ من المُشركين أمامَه إذ سمِعَ ضربةً بالسَّوطِ فوقَه وصوتُ الفارِس يقول: أقدِم حيزُوم، وهو اسمُ فرس الملَك، فنظرَ إلى المُشرِك أمامَه فخرَّ مُستلقِيًا، فنظرَ إليه فإذا هو قد خُطِم أنفُه وشُقَّ وجهُه كضربة السَّوط، فاخضرَّ ذلك أجمع".

"فجاء الأنصاريُّ فحدَّث بذلك رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له: «صدقتَ، ذلك من مدَد السماء الثالثة»، فقتلوا يومئذٍ سبعين وأسَرُوا سبعين"؛ رواه مسلم.

قال سهلٌ - رضي الله عنه -: "لقد رأيتُنا يوم بدرٍ وإن أحدَنا ليُشيرُ بسيفِه إلى رأسِ المُشرِك فيقطعُ رأسَه عن جسَده قبل أن يصِلَ إليه السيف"، قال - سبحانه -: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ) [الأنفال: 17].

وقُتل في هذه الغزوة سبعون مُشرِكًا، منهم ساداتُ قُريشٍ الذين صدُّوا عن دين الله، وقُتِل غيرُهم ممن لا خيرَ فيه بالكلية،وبعد مقتَل ساداتهم لم يبقَ منهم إلا الضِّعافُ، فانتشَرَ الإسلامُ في الآفاقِ بفضل الله.

وقدرُ الله سابِقٌ فيمن بقِيَ من المُشركِين في بدرٍ، فقد أسلمَ منهم بشرٌ كثيرٌ، وفي مُقدَّمهم: أبو سُفيان وعمرُو بن العاصِ - رضي الله عنهما -.

واستشهَدَ أربعة عشر صحابيًّا أصابُوا أعلى الجِنان. جاءَت أمُّ حارِثة بن سُراقة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقالت: يا نبيَّ الله! ألا تُحدِّثُني عن حارِثة؟ قال: «يا أمَّ حارِثة! إنها جِنانٌ في الجنة، وإن ابنَكِ أصابَ الفِردوس الأعلى»؛ رواه البخاري.

قال ابن كثيرٍ - رحمه الله -: "وفي هذا تنبيهٌ عظيمٌ على فضلِ أهلِ بدرٍ؛ فإن حارِثةَ لم يكُن في بحبحَة القِتال ولا في حومَة الوغَى؛ بل كان من النَّظَارة من بعيد، وإنما أصابَه سهمٌ غربٌ وهو يشربُ من الحوضِ، ومع هذا أصابَ بهذا الموقِف الفِردوس. فما ظنُّك بمن كان واقِفًا في نحر العدو؟".

وبعد، أيها المسلمون:

فدينُ الله حقٌّ وهو ناصِرُه، والباطلُ وإن تزخرفَ فالحقُّ يدمغُه، والنصرُ من عند الله وإن تخلَّفَت أسبابُه. فعلى العبد أن يتمسَّك بهذا الدين، وأن ينصُرَ ربَّه لينصُرَه.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [آل عمران: 123].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيم، أقول ما تسمَعون، وأستغفرُ الله لي ولكم ولجميع المُسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفِروه، إنه هو الغفور الرحيم.


الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكرُ له على توفيقِهِ وامتِنانِه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنِه، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابِه، وسلَّم تسليمًا مزيدًا.

أيها المسلمون:

الإسلامُ وصلَ إلينا بتضحِياتٍ فاضَت لأجلِه أرواح، وأُصيبَت أجساد، وقاتلَ لإعلائِه وبقائِه ووصولِه إلينا رسلٌ وصِدِّيقون وشُهداءُ وملائِكة، وعلى مرِّ العصور بقِيَ محفوظًا كاملاً في أحكامِه وتشريعاتِه، صالحًا لكل زمانٍ ومكانٍ.

فواجبٌ على كل عبدٍ أن يتَّبِعَه وأن يفرَح به، وأن ينشُره وينصُره.

ثم اعلموا أن الله أمرَكم بالصلاةِ والسلامِ على نبيِّه، فقال في مُحكَم التنزيل: (إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الذِيْنَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيْمًا) [الأحزاب: 56].

اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على نبيِّنا محمدٍ، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين الذين قضَوا بالحقِّ وبه كانوا يعدِلون: أبي بكرٍ، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن سائر الصحابةِ أجمعين، وعنَّا معهم بجُودِك وكرمِك يا أكرم الأكرمين.

اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل اللهم هذا البلد آمِنًا مُطمئنًّا رخاءً وسائر بلاد المسلمين.

(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة: 201].

اللهم إنا نسألُك الهُدى والتُّقَى والعفافَ والغِنى يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم وفِّق إمامنا لهُداك، واجعَل عملَه في رِضاك، ووفِّق جميعَ ولاة أمور المسلمين للعملِ بكتابك، وتحكيمِ شرعك يا رب العالمين.

اللهم انصر المُجاهدين الذين يُجاهِدون في سبيلِك، اللهم كُن لهم وليًّا ونصيرًا، ومُعينًا وظهيرًا.

اللهم أصلِح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم ولِّ عليهم خيارَهم.

اللهم من أرادنا أو أراد المسلمين أو أراد ديارَنا بسوءٍ فأشغِله في نفسِه، واجعل كيدَه في نحره يا قويُّ يا عزيز.

عباد الله:

(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل: 90].

فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على آلائه ونعمه يزِدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.


فضيلة الشيخ عبد المحسن بن محمد القاسم - حفظه الله امام المسجد النبوى الشريف
 

zxc

إنضم
17 فبراير 2015
المشاركات
96,551
مستوى التفاعل
58
غير متصل
خطب الجمعة والمناسبات
رد : خطب الجمعة والمناسبات

بارك الله فيك
 
إنضم
5 أغسطس 2012
المشاركات
7,203
مستوى التفاعل
0
غير متصل
خطب الجمعة والمناسبات
رد : خطب الجمعة والمناسبات

بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليكم

خطبة الجمعة عنوانها فتح مكة المكرمة



الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه ونتوبُ إليه، ونعوذُ بالله من شُرور أنفُسِنا، ومن سيئات أعمالِنا، من يهدِه اللهُ فلا مُضلَّ له، ومن يُضلِل فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: 1].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 70، 71].
أما بعد:
فاتَّقوا الله - أيها المسلمون -، اتَّقُوه في السرِّ والعَلَن؛ فإن تقوَى الله - عز وجل - سببُ الأمن في الدنيا والهدايةِ في الآخرة: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ [الأنعام: 82].
عباد الله:
لقد دخَلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مكةَ عام الفتح، وقلبُهُ مُفعَمٌ بشُكر الله على نصرهِ لنبيِّه، وإنجازِ وعدِه له، كان مُمتَطِيًا ناقَتَه القَصوَاء وسارَ بها حتى بلغ الكعبة، فطافَ بالبيت سبعًا، ثم صلَّى خلفَ المقام، وجلَس في المسجد والناسُ من حولِهِ، والعيونُ شاخِصةٌ إليه، ينتظِرُون ما هو فاعِلٌ بأهل مكة الذين آذَوه وقاتَلُوه، وأخرَجُوه من بلده التي هي أحبُّ أرض الله إلى الله.
في تلك اللحظات الحَرِجَة تطلَّعَ القومُ، واشرَأَبُّوا إلى معرفةِ صنيعِهِ بأعدائه، وقد تكاثَرَ الناسُ حولَه في المسجد، فخطَبَهم وتَلا عليهم قولَ الله - عز وجل -: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات: 13]، ثم سألَهم: «مَا تَظُنُّونَ أَنِّي فَاعِلٌ بِكُمْ؟ فَقَالُوا: أَخٌ كَرِيمٌ وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ فَقَالَ: اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ».
فاستَرَدَّ أهل مكة أنفاسهم، وبدأت البيوت تُفتَحُ على مصارِيعِها لتُبايِعَ رسولَ الله - بأبي هو وأمي صلواتُ الله وسلامُه عليه -.
الله أكبر! ما أجمل العفوَ عند المقدرة! ومن أحقُّ بذلك إن لم يكُن رسولَ الله - صلواتُ الله وسلامُه عليه -، وصدقَ الله إذ يقول: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم: 4].
عباد الله:
لقد برَزَ حِلمُ النبي - صلى الله عليه وسلم - جليًّا في هذا الموقف، والذي سارَ عليه الأنبياءُ من قبله؛ فهذا هودٌ - عليه السلام - يستمِعُ إلى إجابةِ قومه بعدما دعاهم إلى توحيدِ الله - عز وجل -: ﴿إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ﴾ [الأعراف: 66- 68].
إن شتائِمَ أولئك الجُهَّال لم يطِش لها حِلمُ هودٍ - عليه السلام -؛ لأن الشُّقَّة بعيدةٌ بين رجلٍ اصطَفَاه الله رسولاً، وبين قومٍ سفَّهُوا أنفسَهم، وتهاوَوا على عبادةِ الأصنامِ.
أيها المسلمون:
بهذا الموقفِ وبغيره من المواقف العظيمة، عالَجَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - محوَ الجاهلية التي كانت تقومُ على نوعَين من الجهالة: جهالةٌ مُضادَّةٌ للدين والعلم، وأخرى مُضادَّةٌ للحِلم.
فأما الأولى: فقد قطَّعَ النبي - صلى الله عليه وسلم - ظلامَها بأنواع المعرفة والإرشاد.
وأما الأخرى: فقد كبَحَ الهوى، ومنَعَ الفسادَ فيها بحِلمِهِ وعفوِهِ، ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ [آل عمران: 159].

لقد كانت مواقِفُهُ - صلى الله عليه وسلم - ناسخةً للجاهلية الجَهْلاء التي كان يعيشُها العربُ، والتي بلَغَت من الغِلظَةِ والشِّدَّةِ ما صدَّها عن مكارِمِ الأخلاقِ، كما صوَّر ذلك بعضُهم في قوله:
ألا لا يجهَلَنْ أحدٌ علينا
فنجهَلُ فوق جَهلِ الجاهِلينَا


ولم يكن للجاهلية حينها إلا كأمثالِ شعرِ الحماسةِ والجهل، والفخرِ والحمِيَّة والهِجاء، فجاء الإسلامُ ليُكفْكِفَ من هذه النَّزَوَات، ويُقيمَ أركانَ المجتمع على الفضل وحُسن التخلُّق، ولم تتحقَّق هذه الغاية - بعد فضل الله - إلا عندما هيمَنَ العلمُ النافعُ، والعقلُ الراشدُ على غريزَةِ الجهل والغضَب.
وكثيرٌ من النصائح التي أسدَاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للناس كافَّة، كانت تتَّجِهُ إلى هذا الهدف، مما جعلَ المسلمين يعُدُّون مظاهرَ الطَّيش والتعدِّي، والعُنف والأذَى شُرودًا من القيود التي ربَطَ بها الإسلام الجماعةَ المسلمة، لئلا تمِيدَ ولا تضطرِب، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:«سِبَابُ المُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ».
إن من الناس من لا يسكُتُ عن الغضب، فهو في ثورةٍ دائمةٍ، وتغيُّظٍ يطبَعُ على وجهه العَبُوس، إذا مسَّهُ أحدٌ بأذَى ارتَعَشَ كالمحمُومِ، وأنشَأَ يُرغِي ويُزبِد، ويلعَنُ ويطعَن، والإسلامُ برِيءٌ من هذه الخِلال الكَدِرَة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ الْمُؤْمِنَ لَيْسَ بِاللَّعَّانِ، وَلَا الطَّعَّانِ، وَلَا الْفَاحِشِ، وَلَا الْبَذِيءِ».
وقد حرَّم الإسلام المُهاترات السفيهة، وتبادُل السِّباب بين المُتخاصِمين، وكم من معارك ضارِيَة تُبتذَلُ فيها الأعراضُ، وتُنتَهَكُ فيها الحُرُمات، وما لهذه الآثام الغليظة من عِلَّة إلا تسلُّطُ الغضب، وضياعُ الأدب، وأوزارُ هذه المعارك العنيفة الوضيعَة تعودُ على المُوقِدِ الأول لجَمرَتها، قال - صلواتُ الله وسلامُه عليه -:« الْمُسْتَبَّانِ مَا قَالَا فَعَلَى الْبَادِئِ، مَا لَمْ يَعْتَدِ الْمَظْلُومُ ».
والمسلَكُ الأمثَلُ في ذلك كلِّه، والدالُّ على العظَمَة والمُرُوءة هو أن يبتَلِعَ المرءُ غضبَه فلا ينفَجِر، وأن يقبِضَ يدَه فلا يقتَصَّ، وأن يجعَلَ عفوَه عن المُسيء نوعًا من شُكر الله الذي أقدَرَه على أن يأخذ حقَّه إذا شاء.
قال الأحنفُ بن قيس - رحمه الله -: "احذَرُوا رأيَ الأوغاد"، قالوا: ومن هم؟ قال: "الذين يرَونَ العفوَ والصفحَ عارًا".
أيها الناس:
إن كمالَ العلم في الحِلمِ، ولِينُ الكلام مِفتاحُ القلوب، يستطيعُ المسلمُ من خلالِهِ، أن يُعالِجَ أمراضَ النفوس، وهو هادِئُ النفس، مُطمئِنُّ القلب، لا يستنفِرُه الغضبُ، ولا يستَثِيرُه الحُمقُ، فلو كان الداعِي سيِّءَ الخُلُق، جافِيَ النفس، قاسِيَ القلب، لانفَضَّ من حوله الناسُ، وانصَرَفُوا عنه، فحُرِموا الهدايةَ بأنوار دينهم، فعاشُوا وماتُوا جُهَّالاً، وذلك هو الشقاءُ وهو سببُه وعِلَّتُه.
وتتفَاوَتُ درجاتُ الناس في الثَّباتِ أمام المُثيرَات؛ فمنهم من تستخِفُّه التوافِهُ، فيستَحمِقُ على عجَلْ، ومنهم من تستفِزُّه الشدائِد، فيُبقِي على وَقعِها الأليم، مُحتفِظًا برجاحَةِ فِكرِه، وسَجَاحَةِ خُلُقِه.
والرجلُ الحليمُ حقًّا هو من إذا حلَّقَ في آفاق دُنيا الناس، اتَّسَعَ صدرُه، وامتَدَّ حِلمُه، وعذَرَ الناسَ من أنفسهم، والتَمَسَ المُبرِّرات لأغلاطِهم، فإذا ما عَدَا عليه غِرٌّ يريد تجرِيحَه نظَرَ إليه من عُلُوٍّ، وفعلَ كما قال الأحنفُ بن قيسٍ - رحمه الله -: "ما آذانِي أحدٌ إلا أخذتُ في أمرِه بإحدى ثلاث: إن كان فوقِي عرفتُ له فضلَه، وإن كان مثلِي تفضَّلتُ عليه، وإن كان دُونِي أكرَمتُ نفسي عنه".
وكان مشهورًا بالحِلمِ - رحمه الله -، وبذلك سادَ عشيرتَه، وقد قيل له: ممن تعلَّمتَ الحِلمَ؟ فقال: "من قيسِ بن عاصِمٍ، كنا نختَلِفُ إليه في الحِلم كما يختَلِفُ إليَّ الفقهاءُ في الفقهِ، ولقد حضَرتُ عنده يومًا، وقد أتَوهُ برجُلٍ قد قتَلَ ابنَه، فجاؤوا به مكتُوفًا، فقال: ذَعرتُم أخي، أطلِقُوه، واحمِلُوا إلى أم ولَدِي دِيَتَه، فإنها ليست من قومِنا".
عباد الله:
اعلَمُوا أن الحليمَ إما أن يكون عاجزًا جبانًا، ليس له شيءٌ ولا عليه شيءٌ، فهذا إن لم يغنَم فإنه لا يأثَم.
وإما أن يكون مُخادِعًا مكَّارًا، ظاهِرُه سَمتُ المُؤمنين، وباطِنُه حِقدُ المجرمين، يتحلَّمُ ظاهرًا، ويعُفُّ علَنًا، ولكنه يغضَبُ باطِنًا، وينتقِمُ مُسرِفًا، وهذا حَقودٌ لَدودٌ، لا يلبَث أن يفضَحَه الله على رءوس الناس.
وإما أن يكون حليمًا مفطُورًا على الخير، مجبُولاً عليه، وهذا كأشَجِّ عبد القيس الذي قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:«إِنَّ فِيكَ خَلَّتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ، الْحِلْمُ وَالْأَنَاةُ» قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا أَتَخَلَّقُ بِهِمَا أَمُ اللَّهُ جَبَلَنِي عَلَيْهِمَا؟ قَالَ: «بَلِ اللَّهُ جَبَلَكَ عَلَيْهِمَا» قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَبَلَنِي عَلَى خَلَّتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ».
وإما أن يكون ثائِرَ النفس، أزعَجَه من ظَلَمَه، فيصبِرُ مُحتسِبًا، ويصفَحُ قادِرًا، ويأمره إيمانُه بالعُرْفِ، والعفوِ عن الجاهلين، وهذا هو المُثابُ في الدنيا والآخرة، والمشكورُ عند الله وعند خَلقه، وهو الموصوفُ بالشدَّة والقوَّة، كما في قولهِ - صلى الله عليه وسلم -:«لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ».
وهو المقصودُ أيضًا في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -:« مَنْ كَظَمَ غَيْظًا، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ، دَعَاهُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ مِنْ أَيِّ الْحُورِ شَاء.
أيها الناس:
إن قلَّةَ الحِلمِ وكثرةَ الغضب آفتان اثنتان، إذا استَشرَتَا في مُجتمعٍ ما قوَّضَتا بُنيَانَه، وهدَّمَتا أركانَه، وقادَتَا المُجتمعَ إلى هُوَّةٍ سحيقةٍ بعد أن كانتا كالسُّوس ينخَرُ في جسد المجتمع المسلم حتى يُودِيَ به إلى الهلاكِ - والعياذ بالله -.
وإلا فما تفسيرُ ضياع المجتمعات المسلمة، واندِثَار آدابها وأخلاقها، وانتِشارِ الشتائِمِ والفُحش بين أفرادها على كافَّة الأصعِدَة، مما ساعَدَ على تقطيعِ الأواصِرِ والروابِطِ، وإشاعة أجواء التباغُض والتدابُر والتحاسُد، وإظهار الشماتَةِ على الأمة المسلمة من قِبَل أعدائها، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يَا عَائِشَةُ» إِنَّ اللهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ، وَمَا لَا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاه .
وهل الطلاقُ وما يكون بين الزوجَين من الشِّقاقِ، الذي أدَّى بالزوج إلى كسرِ ضِلَعها وضياعِ أمرها، إلا نتيجة الغضب وقلَّة الحِلم؟! ثم بعد ذلك يندَمُ، ولاتَ ساعةَ مندَم، ويتأسَّفُ على ما مضَى، ويرى أنه قد جنَى على نفسِه بالحِرمَان، وعلى زوجته بالعقوبةِ ولا ذنبَ لها، ويتَّمَ أولادَه وهو لم يزَلْ حيًّا.
ثم لا تسَلْ بعد ذلك عن مُحاولات هذا الغِرِّ في الرجوعِ إلى زوجته، واختِلاقِ الكذِبِ والمعاذِير، فيذهَبُ من قاضٍ إلى آخر، ومن مُفتٍ لآخر، ويستَعينُ على حاجته بكل بَرٍّ وفاجِرٍ، كلُّ ذلك لمَحوِ غلطةٍ ارتَكَبَها دون تفكُّرٍ أو روِيَّةٍ، أو تدرُّجٍ في التأديب، مما تسبَّبَ في هَدم لبِنَةٍ كان بإمكانِهِ مُعالجَتُها لو مَلَكَ عقلَه، وأشهَرَ حِلمَه، وكفَّ غضبَه.
وما ذنبُ الولد إذا خرَجَ من بيته هَلِعًا مُكفهِرًّا وجهه، ضائِقًا صدرُه، ينطلِقُ يمنةً ويسرَةً، يبحثُ عن سببٍ يُزيلُ به همَّه، ويجلُو به غمَّه، وسواءٌ عنده تلك الأسباب كانت من الحلال أم من الحرام، ولربما استبشَرَ به وبأمثاله وحوشُ الظلام، وذئابُ المجتمع، فيسير وراء تخبُّطِهم، ويضيعُ بضياعِهم.
كل ذلك نتيجةُ غضبةٍ من أبيه أو أمِّهِ، أعقَبَها سبٌّ وشتمٌ ولطمٌ، وربما طردٌ ولعنٌ، فيُبدِّدُ بذلك شملَ الأسرة، ويجعلُ البيتَ نارًا أو بُركانًا ثائرًا، وإن سمِعَ من جاره شيئًا غضِبَ، وردَّ أكثرَ مما قيل له، أو فُعِل به، فيُصبِحُ الجيرانُ أعداءً له وخُصُومًا، يكسِبُ في كل يوم عدوًّا، ويفقِدُ صديقًا، ويهدِمُ بيتًا، وربما خسِرَ تجارتَه، وطُرِد من وظيفتِه.
أعاذَنا الله وإياكم من الغضب، ومن سُوءه وآثاره، ورَزَقَنا وإياكم الحِلمَ والتحلُّمَ، إنه سميعٌ قريبٌ.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [آل عمران: 133، 134].
باركَ الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفَعَني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيم، أقولُ قولِي هذا، وأستغفرُ الله لي ولكم ولسائرِ المُسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفِرُوه، إنه هو الغفورُ الرحيم.

الخطبة الثانية
الحمدُ لله على إحسانه، والشكرُ له على توفيقه وامتِنانِه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنِه، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه الداعِي إلى رِضوانه، صلواتُ الله وسلامُه عليه وعلى أصحابِه وأتباعه وإخوانه.
أما بعد .. فيا أيها الناس:
اتَّقُوا الله، واعلَموا أنه يجبُ علينا جميعًا أن نعمل بتعاليم ديننا الحَنيف، وأن نأخُذ بإرشادات نبيِّنَا - صلواتُ الله وسلامُه عليه -، كما يجبُ علينا أن نقصُر أنفسَنا عن الغضَبِ، ولا نتسرَّع فيما يعودُ علينا بالحسرَةِ والندامَةِ.
والمرءُ المسلم مُطالَبٌ بكِتمان غيظِه، وإطفاءِ غضبه بما استطاعَ من تحلُّم وتصبُّر، واستعاذَةٍ بالله من النفسِ والهوَى والشيطان، وعليه أن يترفَّق أولاً في أهله، وثانيًا برعيَّتِه وجيرانه، وعُملائه ومُواطِنيه، فلا يكونُ عونًا لزوجته على النُّشُوز، ولأبنائه على العُقُوق، ولجيرانه على الإساءة، ولرعيَّته على التمرًّد، وللناس كافَّة على هجره ومُجانَبَته.
ويختلفُ الغضبُ في دُنيا الناس؛ إذ يتراوَحُ صعودًا وهبوطًا باختلاف الأحوال والظروف، ولكنه من خلال الإطار الشرعي لا يخرجُ عن ثلاث مراتب:
المرتبةُ الأولى: مرتبةُ الاعتدال، بأن يغضَبَ ليُدافِع عن نفسه أو دينه أو عِرضه أو ماله، ولولا ذلك لفسَدَت الأرضُ بانتشار الفوضَى، وتقويضِ نظام الاجتماع، كما قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -:«مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ، أَوْ دُونَ دَمِهِ، أَوْ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ».
المرتبةُ الثانية: أن ينحَطَّ الغضبُ عن الاعتدال، بأن يضعُف في الإنسان، أو يُفقَد بالكلية، وهذه الحالُ مذمومةٌ شرعًا، لاسيَّما إذا تعلَّقَت بحُرُمات الله، قالت عائشةُ - رضي الله عنها -:« مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْرَأَةً لَهُ قَطُّ، وَلَا جَلَدَ خَادِمًا لَهُ قَطُّ، وَلَا ضَرَبَ بِيَدِهِ شَيْئًا قَطُّ إِلَّا فِي سَبِيلِ اللهِ، أَوْ تُنْتَهَكُ مَحَارِمُ اللهِ فَيَنْتَقِمُ لِلَّهِ ».
والمرتبةُ الثالثة: أن يطغَى الغضبُ على العقل والدين، وربما جرَّ صاحبه إلى ارتِكاب جرائِم كبيرة، ومُوبِقات كثيرة، ولا يمكن التخلُّص من هذه العقَبَة إلا بفعلِ ما أرشَدَ إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله: «وَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْكُتْ».
واستَبَّ رجُلان عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، فاحمَرَّ وجهُ أحدهما غضَبًا، فقال - صلى الله عليه وسلم -:« إِنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً، لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ، لَوْ قَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ " فَقَالُوا لِلرَّجُلِ: أَلاَ تَسْمَعُ مَا يَقُولُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: إِنِّي لَسْتُ بِمَجْنُونٍ».
هذا وصلُّوا - رحِمَكم الله - على خير البريَّة، وأزكَى البشريَّة: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، صاحب الحوض والشفاعة.
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولِك محمدٍ، صاحبِ الوجهِ الأنوَر، والجَبين الأزهَر، وارضَ اللهم عن الخلفاء المهديِّين: أبي بكرٍ، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن الصحابةِ والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوِك وجُودِك وكرمِك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشركَ والمُشركين، ودمِّر أعداءَك أعداءَ الدين، واجعَل هذا البلد آمنًا مُطمئنًّا، وسائرَ بلاد المسلمين.
اللهم انصُر من نصرَ الدين، اللهم انصُر من نصرَ الدين، واخذُل من خذَلَ عبادَك المُؤمنين يارب العالمين.
اللهم أصلِح أئمَّتَنا ووُلاةَ أمورِنا، واجعَل ولايتَنا فيمن خافَكَ واتَّقاكَ، واتَّبعَ رِضاكَ ياربَّ العالمين.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبُّ وترضى، وخُذ بناصيته للبرِّ والتقوى، اللهم أصلِح له بِطانَتَه يا ذا الجلال والإكرام.
﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [البقرة: 201].
اللهم احفَظنا بالإسلام قائِمين، واحفَظنا بالإسلام قاعِدين، واحفَظنا بالإسلام راقِدين، ولا تُشمِت بنا الأعداءَ ولا الحاسِدين برحمتِك يا أرحم الراحمين.
ربَّنا تقبَّل منا إنك أنت السميعُ العليم، واغفِر لنا إنك أنت الغفورُ الرحيم.
عباد الله:
اذكُروا اللهَ العظيمَ يذكُركُم، واشكُروه على نعمِه يزِدكُم، ولذِكرُ الله أكبرُ، والله يعلمُ ما تصنَعون.

المصدر موقع الشيخ سعود الشريم خطيب المسجد الحرام
 
التعديل الأخير:

zxc

إنضم
17 فبراير 2015
المشاركات
96,551
مستوى التفاعل
58
غير متصل
خطب الجمعة والمناسبات
رد : خطب الجمعة والمناسبات

بارك الله فيك
 
إنضم
5 أغسطس 2012
المشاركات
7,203
مستوى التفاعل
0
غير متصل
خطب الجمعة والمناسبات
رد: خطب الجمعة والمناسبات



بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليكم

خطبة الجمعة: اليوم الصالح عاشوراء
الخطبة الاولى

إن الحمد لله, نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلن تجد له وليًا مرشدًا, وأشهد أن لا إله إلا الله، إله الأولين والآخرين لا إله إلا هو الرحمن الرحيم , وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله, اللهم صلِّ على محمد, وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم, إنك حميدٌ مجيد .
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المؤمنون, اتقوا الله تعالى بامتثال أمره, بفعل ما أمركم به, وترك ما نهاكم عنه, رغبةً فيما عنده؛ فإن ذلك وصية الله تعالى للأولين والآخرين :{ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ } .
أيها المؤمنون, إن الله تعالى خلق الزمان والمكان, وخلق كل ما في الكون من سائر المخلوقات التي ترونها وتشاهدونها, وهو جل في علاه يصطفي من خلقه ما يشاء, ويختار من ذلك الخلق ما يشاء بما يخصه من الخصائص التي تميزه :{ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } .
أيها المؤمنون عباد الله, إن الله تعالى جعل الليل والنهار خِلفة, يعقب الليل النهار, ويعقب النهار الليل, على توالٍ لا ينقطع, في نظامٍ محكم ,لا يختل ولا يختلف, يُعرف به عظيم صنع الله وكبير إتقانه, فشروق الشمس وغروبها, وسير القمر وتنقله ,كل ذلك في حسابٍ دقيق ,كما قال جل في علاه :{ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ } أي بحسابٍ دقيقٍ منتظم لا يختلف ولا يختل , ومن خلال ذلك التوالي, وذاك التعاقب, وذاك الجريان لهذين النيرين يكون حساب الأيام ,ويكون حساب ما فيه مصالح الناس :{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ } , هذا ما ينتفع به الناس من توالي هذه الأفلاك وجريانها وسيرها وفق هذا النظام البديع الدال على عظيم صنع الرب جل في علاه الذي أتقن كل شيء خلقه, فهو الحكيم الخبير جل في علاه.
أيها المؤمنون, إن الله تعالى جعل عدة الشهور اثنا عشر شهرًا كما قال في محكم كتابه : { إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } , هذا بيانٌ لأوقات الناس وحسابهم لمصالحهم وأزمانهم, وما يكون من أحوالهم, ذاك النظام دالٌ على صنع الكريم المنان, وبه تقوم المصالح, وحساب أهل الإسلام منذ فجر الإسلام لأيامهم وشهورهم وسائر مصالحهم هو بسير القمر ليس لهم حساب غيره, بل هذا ليس لأهل الإسلام فحسب بل للناس كافة ,لذلك قال تعالى :{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ } فهي ميقاتٌ عامٌ للبشرية كلها، على هذا جرى الأنبياء, وعلى هذا جرت الأمم منذ غابر العهود والعصور, وأما الحساب بسير الشمس فذاك أمرٌ يحصل به مصالح وفيه منافع, لكنه ليس الحساب المتيسر للناس الذي يدركه العامي والمتعلم, والذي يدركه الحضري والبدوي ,والذي يدركه الصغير والكبير, فإن حساب الأشهر والأيام بمسير الهلال وبمسير القمر وتحوله شيء ظاهر بين يدركه الصغير والكبير, ويعرفه كل أحد فليس حاجة إلى حساب ولا إلى تدقيق, بخلاف حساب سير الشمس فإنه لا يدركه إلا العارفون بعلم الفلك والهيئة, لذلك كان من التيسير الإلهي أن جعل الله تعالى مناط الأحكام الشرعية فيما يتعلق بعبادات الناس في صيامهم, وفي حجهم, وفي زكاتهم, منوطًا بمسير القمر لا بمسير الشمس, لأن ذلك أيسر في الحساب, ودين الإسلام دين يسرٍ يوافق الفطرة, ويوافق ما ينتفع به الجميع, لا يخص فئةً دون فئة, ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: « إنا أمةٌ أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا وهكذا» مشيرًا حتى لم يذكر عددًا ثلاثين ثم في المرة الثانية قال « وهكذا وهكذا وهكذا» , وفي الثالثة ضم إصبعه صلى الله عليه وسلم ليشير إلى أن الشهر إما أن يكون تسعةً وعشرين, أو أن يكون ثلاثين على حسب ما تقتضيه تحولات القمر وظهور الهلال وبدوه.
أيها المؤمنون, إن رحمة الله تعالى بالمؤمنين بادية في كل أحكام الشريعة, فما جعل عليكم في الدين من حرج، إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحدٌ إلا غلبه, ولذلك كان التوقيت الذي سار عليه الصحابة رضي الله عنهم وسارت عليه الأمة بل سارت عليه الأمم هو التوقيت بالهلال لا التوقيت بمسير الشمس لخفائه وعدم ظهوره.
عباد الله, إن الله تعالى خلق هذه الأشهر واختص منها أربعة فجعلها محرمةً معظمة ,فقال جل في علاه :{ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ } أي جعل الله تعالى لها من الحرمة والمكانة والمنزلة ووجوب الصيانة ما ينبغي أن تحفظ وأن تصان ,ثم قال جلا وعلا: { فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } , أي لا تظلموا أنفسكم بالمعصية بترك ما أمر الله تعالى, أو بالتورط بما نهى الله تعالى عنه من المناهي والمعاصي والسيئات ,كل ذلك مما حرمته الشريعة, ومن الظلم للنفس الذي نهى الله تعالى عنه, فينبغي للمؤمن أن يحتاط في هذه الأشهر أكثر من غيرها؛ فإن الحرمة فيها والمنع فيها أعظم من غيرها, ولذلك ينبغي لمن يعظم شعائر الله أن يعظم ما عظمه الله :{ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ } وأعظم هذه الأشهر الحرم الأربعة وهي: ذو القعدة وذو الحجة ومحرم ورجب, أعظمها حرمة الشهر الذي أضافه الله لنفسه إنه شهر الله المحرم ولذلك أضافه النبي صلى الله عليه وسلم لله عز وجل فقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: « أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم» , فإضافة الشيء إلى الله تقتضي تعظيمه واختصاص الله تعالى به, وحفاوة الله به, ولذلك كان هذا الشهر مُحرمًا مُعظَّمًا.
ومن أسباب تعظيمه أن العرب كانوا ينتهكون حرمته بتحويله عن زمانه ونقله عن مكانه, فعظمه الله تعالى وأثبت مكانه بعد ذي الحجة خلافًا لما كان يفعله الجاهليون من تغيير الزمان بتقديم صفر على المحرم لأجل أن يتمتعوا بالسلب والنهب والقتل وسائر الجرائم التي كانوا يمتنعون منها في الأشهر الحرم.
أيها المؤمنون, إن شهر الله المحرم شهرٌ له مزية عند الله تعالى بأنه محرم , وهذا يتفق مع الأشهر الحرم, وبأنه شهرٌ أضافه الله لنفسه, وهذا يقتضي مزيد عنايةٍ وصيانة, وأنه شهرٌ هو في الصيام أفضل الشهور بعد رمضان, فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل كما في الصحيح من حديث أبي هريرة أي الصيام أفضل بعد رمضان؟ قال صلى الله عليه وسلم: « أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم» , فينبغي للمؤمن أن يحرص على الاستكثار فيه من صيامه, ومن العمل الصالح في الجملة ؛ فإن الصيام أفضل الأعمال عند الله عز وجل, وهو أفضل الأعمال التي يتقرب بها إلى الله تعالى في هذا الشهر, فنسأل الله أن يعيننا فيه على طاعته وأن يرزقنا فيه ما يحب ويرضى وأن يحفظنا من السوء والشر وأن يجعلنا ممن يعظم ما عظمه, ويعظم شعائره, ويعظم حرماته فينال بذلك فضل الدنيا والآخرة وسعادة الأولى والأخرى أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية :
الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدًا صلى الله عليه وعلى آله وسلم, رسول الله وخاتم النبيين، اللهم صلِّ على محمد ,وعلى آل محمد, كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم, إنك حميدٌ مجيد.
أيها المؤمنون, عباد الله إن تقوى الله تعالى تجلب للمؤمن كل خير وتدفع عنه كل سوء وتجلب له سعادة الدنيا وفوز الآخرة، يقول الله تعالى { وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } .
أيها المؤمنون, عباد الله شهر الله المحرم هو أفضل الأشهر صيامًا بعد رمضان, وأفضل ما فيه ذاك اليوم الصالح الذي نجا الله تعالى بني إسرائيل من فرعون وقومه إنه يوم عاشوراء؛ لذلك احتفى به النبي صلى الله عليه وسلم فقال لليهود: «أنا أحق منكم بموسى فصامه وأمر بصيامه صلى الله عليه وسلم» , وقد قال ابن عباس كما في الصحيح لما سئل عن صوم يوم عاشوراء: «مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَحَرَّى صِيَامَ يَوْمٍ فَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ إِلَّا هَذَا اليَوْمَ، يَوْمَ عَاشُورَاءَ» .من هذا الشهر وهو شهر الله المحرم.
وإن من فضيلة هذا اليوم: كونه يومًا أظهر الله تعالى فيه الحق على الباطل، أنْجى فيه المؤمنين من عدو الله فرعون, أهلك فيه طاغية الأرض الذي قال أنا ربكم الأعلى؛ فكان يومًا صالحًا كما وصفته بنو إسرائيل وأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم، إنه يومٌ صالح ذاك اليوم الذي أنجى الله تعالى فيه موسى وقومه، إنه يومٌ صالح ذاك اليوم الذي أظهر الله تعالى فيه الحق على الباطل، إنه يومٌ صالح ذاك اليوم الذي ترتبط فيه الأمة فيذكر أهل الإسلام من أتباع النبي صلى الله عليه وسلم نصر الله لقوم موسى { إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ } ، إنه يومٌ صالح الذي يكفر صيامه سنةً ماضية كما في الصحيح من حديث أبي قتادة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في يوم عاشوراء: « أحتسب أن يكفر السنة التي قبله» . إنه يومٌ صالح يدرك فيه المؤمن فضلاً عظيمًا وأجرًا كبيرًا بعملٍ يسيرٍ سهل, فحط ذنوب عامٍ كامل مَكسبٌ كبير, وفوزٌ عظيم لمن تذكر ما كان من سيِّءِعمله, فإن الله تعالى يفتح لنا أبواب الأوبة , ويمنحنا فرص العودة, فلنحرص على صيام هذا اليوم؛ فإنه يومٌ مبارك من صامه كفر الله تعالى به عنه عامًا ماضيًا.
وقد كان ابن شهاب يتحرى صيامه ويصومه حتى في سفره ويقول: "إِنَّ رَمَضَانَ لَهُ عِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَاشُورَاءُ يَفُوتُ". , وهذا يدل على تأكد صيامه لمن كان حاضرًا أو كان مسافرًا؛ فإنه فضيلةٌ ينبغي للمؤمن أن يحرص عليها, وأن يبادر إلى فعلها عل الله أن يحط به من خطاياه.
أيها المؤمنون, إن فضيلة صوم يوم عاشوراء تحصل لمن صام اليوم العاشر ولو صامه منفردًا ولا كراهة في ذلك, لكن الأفضل والمستحب أن يضم إلى العاشر التاسع؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما قيل له إنه يومٌ تعظمه اليهود قال:«لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع» أي مع العاشر فيكون الصيام في يوم التاسع وفي يوم العاشر ,اليوم العاشر هو الذي تحصل به الفضيلة من تكفير السنة وشكر الله على نصر موسى على فرعون واليوم التاسع تحصل به المخالفة فمن صام اليوم العاشر أدرك الفضيلة, ولا يلزم أن يصوم معه يومًا آخر قبله أو بعده.
وأما حديث الصيام «صوموا يومًا قبله أو يومًا بعده» فهو حديثٌ في إسناده مقال ولو فعله الإنسان ممن لم يتيسر له مخالفة اليهود بصيام يومًا قبله فصام يومًا بعده تحقق المعنى المقصود من المخالفة, وفي كل الأحوال هو فرصة لمن أراد الاستزادة من التقوى والخير فلنبادر إلى العمل الصالح.
اللهم ألهمنا رشدنا, وقنا شر أنفسنا، اللهم أعنا على طاعتك, واصرف عنا معصيتك، استعملنا فيما تحب وترضى, واصرف عنا السوء والفحشاء، اللهم لا تجعلنا ممن شقي بعمله, وارزقنا يا ذا الجلال والإكرام مرافقة السعداء, وخاتمة الشهداء, ومرافقة الأنبياء، اللهم إنا نعوذ بك من درك الشقاء, وسوء القضاء, وشماتة الأعداء, وجهد البلاء يا رب العالمين، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، اللهم آمنا في أوطاننا, وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم اجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين، اللهم انصر إخواننا المجاهدين فى سبيلك في كل مكان اللهم انصرهم على الظالمين .
اللهم ندرأ بك في نحور المعتدين إنك على كل شيءٍ قدير، اللهم عليك بمن سب الصحابة وآذاهم, عليك بمن آذى عبادك وسعى في نشر الفساد في الأرض إنك على كل شيءٍ قدير، اللهم إنا ندرأ بك في نحور أهل البدعة حيث كانوا ونعوذ بك من شرورهم، اللهم احفظنا واحفظ السنة وأهلها واحفظ الإسلام وأهله, اللهم اجعل الدائرة على كل من حاربك أو عاداك أو عادى أوليائك وآذاهم يا رب العالمين، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والرشاد والغنى، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد.


المصدر موقع الشيخ خالد عبد الله المصلح


 

zxc

إنضم
17 فبراير 2015
المشاركات
96,551
مستوى التفاعل
58
غير متصل
خطب الجمعة والمناسبات
رد : خطب الجمعة والمناسبات

بارك الله فيك
 
إنضم
11 أكتوبر 2020
المشاركات
46
مستوى التفاعل
0
غير متصل
خطب الجمعة والمناسبات
رد: خطب الجمعة والمناسبات

بارك الله فيك​
 
إنضم
30 مايو 2022
المشاركات
2
مستوى التفاعل
0
العمر
34
غير متصل
خطب الجمعة والمناسبات
رد: خطب الجمعة والمناسبات

بارك الله فيك
 
إنضم
5 أغسطس 2012
المشاركات
7,203
مستوى التفاعل
0
غير متصل
خطب الجمعة والمناسبات
رد: خطب الجمعة والمناسبات

جزاكم الله خيرا على المتابعة
 
إنضم
5 أغسطس 2012
المشاركات
7,203
مستوى التفاعل
0
غير متصل
خطب الجمعة والمناسبات
رد: خطب الجمعة والمناسبات

بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم

عنوان الخطبة فضائل شهر ذى القعدة الحرام

الخطبة الأولى
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهدِ الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وخليله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومَن تبِعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:
عباد الله، نحن في بداية الشهر الثاني من أشهر الحج، وأحد الأشهر الحُرُمِ الأربعة، وهو شهر ذي القعدة، وسمي بهذا الاسم؛ لأن العرب كانت تقعد فيه عن الغزو للترحال وطلب الكلأ؛ حتى يتمكنوا من تجهيز أنفسهم، وتذليل قعداتهم، وترويضها للركوب إلى الحج، وهو ثاني أشهر الحج التي قال الله عز وجل فيها: ﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ﴾ [البقرة: 197]، وورد فيه فضيلتان لا يُزاد عليهما؛ الفضيلة الأولى: أنه من الأشهر التي يدخل الحاج فيها للنسك سواء كان متمتعًا، أو مفرِدًا، أو قارنًا، وغالب من يُحرمون في ذي القعدة يحرمون متمتعين؛ ولذا لما حج صلى الله عليه وسلم في أواخر ذي القعدة كان قارنًا، ثم أمر أصحابه أن يحلوا إحرامهم إلى التمتع رفقًا بهم ورحمةً؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ، ما سقت الهديَ، ولحللْتُ مع الناس حين حلُّوا))؛ [رواه البخاري]، الفضيلة الثانية: الاعتمار فيه؛ لأن جميع عُمَرِ النبي صلى الله عليه وسلم كانت في ذي القعدة، حتى عمرته التي قرنها بحجته أحرم بها في ذي القعدة، وكانت عُمَرُهُ صلى الله عليه وسلم أربعًا: عمرة الحديبية ولم يتمها، بل تحلل منها ورجع، وعمرة القضاء من قابل، وعمرة الجِعرانة عام الفتح في السنة الثامنة لما قسم غنائم حنين، وعمرته في حجة الوداع، كما دلت عليه النصوص الصحيحة، وعلى هذا القول جماهير أهل العلم، بل فضل طائفة من السلف عمرة ذي القعدة على عمرة رمضان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر في ذي القعدة؛ ولذا كان كثير من السلف يحرص على أداء العمرة في ذي القعدة؛ اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم.

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على عظم نعمه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وخليله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.


أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله حق التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، واعلموا أن أجسادكم على النار لا تقوى.

ويستحب في العمرة سياقة الهَدْيِ، وهذه سنة غفل عنها كثير من الناس، مع تيسر سياقة الهدي في العمرة أكثر منها في الحج، بل وفي زماننا هذا سياقته أيسر، ولكن العجلة وانشغالنا عن كثير من السنن حرمنا منها ومن فضلها، إلا من رحم ربك، وسياق الهدي في العمرة فِعْلُ النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام، ودليل سياقة الهدي في العمرة ما رواه البخاري رحمه الله في صحيحه؛ حيث قال: ((خرج النبي صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية من المدينة في بضع عشرة مائة من أصحابه، حتى إذا كانوا بذي الحُلَيْفة، قلد النبي صلى الله عليه وسلم الهديَ وأشعرَ وأحرم))، وروى البخاري رحمه الله في صحيحه أن: ((ابن عمر رضي الله عنهما أهلَّ بعمرة، ثم اشترى الهدي من قُدَيْد))، وسئل الشيخ العلامة ابن العثيمين: هل من السنن المندثرة: ذبح الهدي بعد العمرة؟ فأجاب رحمه الله: "نعم، هذه من السنن المندثرة، لكن ليس من السنة أنك إذا اعتمرت اشتريت شاةً وذبحتها، السنة أن تسوق الشاة معك تأتي بها من بلادك، أو على الأقل من الميقات، أو من أدنى حلٍّ عند بعض العلماء، ويسمى هذا سوق الهدي، أما أن تذبح بعد العمرة بدون سوق، فهذا ليس من السنة"، انتهى كلامه رحمه الله، قلت: "ومن أدنى الحل" يشمل جزءًا من الشرائع وعرفة والتنعيم، وغيرها، وأنصح نفسي وإخواني من طلبة العلم بنشر السنن والتحذير من البدع؛ فالسنن تقوم على أنقاض البدع، والبدع تقوم على هدم السنن، وأنصح كل امرئ يتيسر له الاعتمار في ذي القعدة أن يعتمر؛ اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولو ساق معه هديًا كان أكمل وأفضل.

وصلوا وسلموا على نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم.

اللهم احفظنا بحفظك، ووفق ولي أمرنا وولي عهده لما تحب وترضى، واحفظ لبلادنا الأمن والأمان، والسلامة والإسلام، وانصر المجاهدين على حدود بلادنا، وانشر الرعب في قلوب أعدائنا، واجعلنا هداةً مهديين غير ضالين ولا مضلين، ونسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة، ربنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً، وقنا عذاب النار، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على الـمرسلين، والحمد لله رب العالمين، وقوموا إلى صلاتكم يرحـمـكم الله.

المصدر الالوكة
 

zxc

إنضم
17 فبراير 2015
المشاركات
96,551
مستوى التفاعل
58
غير متصل
خطب الجمعة والمناسبات
رد : خطب الجمعة والمناسبات

بارك الله فيك
 
إنضم
30 مايو 2022
المشاركات
2
مستوى التفاعل
0
العمر
34
غير متصل
خطب الجمعة والمناسبات
رد: خطب الجمعة والمناسبات

بارك الله فيك
 
التعديل الأخير بواسطة المشرف:

zxc

إنضم
17 فبراير 2015
المشاركات
96,551
مستوى التفاعل
58
غير متصل
خطب الجمعة والمناسبات
رد : خطب الجمعة والمناسبات

بارك الله فيك
 
أعلى